أما حكم سبها أو قذفها بما برأها الله منه من فوق سبع سموات
فقد ساق ابن حزم الظاهري بإسناده إلى هشام بن عمار قال : سمعت مالك بن أنس يقول من سب أبا بكر و عمر جلد ، و من سب عائشة قتل ، قيل له : لم يقتل في عائشة ؟ قال : لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها {يعظكم الله أنتعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين }،
قال مالك فمن رماها فقد خالف القرآن ،و من خالف القرآن قتل . قال أبو محمد رحمه الله : قول مالك هاهنا صحيح و هيردة تامة و تكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها .( المحلى (13/504))
و حكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر الطيب قال : إن الله تعالى إذا ذكرفي القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه ، كقوله {و قالوا اتخذ اللهولدا سبحانه }، و ذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال {ولولا إذسمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك } ، سبح نفسه في تبرئتها منالسوء كما سبح نفسه في تبرئته من السوء ، و هذا يشهد لقول مالك في قتل من سبعائشة ، ومعنى هذا و الله أعلم أن الله لما عظم سبها كما عظم سبه وكان سبهاسباً لنبيه ، و قرن سب نبيه وأذاه بأذاه تعالى ، وكان حكم مؤذيه تعالى القتل، كان مؤذي نبيه كذلك . (الشفاء للقاضي عياض (2/267-268)(.
و قال أبو بكر ابن العربي : إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأهاالله ، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله ، و من كذب الله فهوكافر ، فهذا طريق قول مالك ، و هي سبيل لائحة لأهل البصائر ولو أن رجلاً سبعائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب .
)أحكام القرآن لابن العربي ((3/1356) (.
و ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعض الوقائع التي قتل فيها من رماهارضي الله عنها بما برأها الله منه ، حيث يقول : و قال أبو بكر ابن زيادالنيسابوري : سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق أتى المأمون بالرقةبرجلين شتم أحدهما فاطمة و الآخر عائشة ، فأمر بقتل الذي شتم فاطمة و تركالآخر ، فقال إسماعيل : ما حكمهما إلا أن يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القرآن .
قال شيخ الإسلام : وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم .
قال أبو السائب القاضي : كنت يوماً بحضرة الحسن بن زيد الدعي بطبرستان ، وكان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة ، فقال : يا غلام اضرب عنقه، فقال له العلويون : هذا رجل من شيعتنا ، فقال : معاذ الله ان هذا رجل طعنعلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى { الخبيثات للخبيثينوالخبيثون للخبيثات ، والطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات ، أولئك مبرءون ممايقولون ، لهم مغفرة و رزق كريم } ، فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى اللهعليه وسلم خبيث ، فهو كافر فاضربوا عنقه ، فضربوا عنقه و أنا حاضر .
و روي عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد أنه قدم عليه رجل من العراق فذكرعائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب دماغه فقتله ، فقيل له : هذا من شيعتنا و منبني الآباء ، فقلا : هذا سمى جدي قرنان – أي من لاغيرة له - ، و من سمى جديقرنان استحق القتل فقتلته .
و قال القاضي أبو يعلى : من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف ، وقد حكي الإجماع على هذا غير واحد ، و صرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم .
و قال أبي موسى – و هو عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن جعفر الشريف الهاشميإمام الحنابلة ببغداد في عصره - : و من رمى عائشة رضي الله عنها بما برأهاالله منه فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة . الصارم المسلول ( ص 566-568) . ))
و قال ابن قدامة المقدسي : ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى اللهعليه و سلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء ، أفضلهم خديجة بنخويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه ، زوج النبي صلىالله عليه وسلم في الدنيا و الآخرة ، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفربالله العظيم . (لمعة الاعتقاد ص 29)
وقال الإمام النووي في صدد تعداده الفوائد التي اشتمل عليها حديث الإفك : الحادية و الأربعون : براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك و هي براءة قطعيةبنص القرآن العزيز ، فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافراً مرتداًبإجماع المسلمين ، قال ابن عباس و غيره : لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلواتالله و سلامه عليهم أجمعين ، و هذا إكرام من الله تعالى لهم .
(شرح النووي علىصحيح مسلم (17/ 117-118)) .
و قد حكى العلامة ابن القيم اتفاق الأمة على كفر قاذف عائشة رضي الله عنها ،حيث قال : واتفقت الأمة على كفر قاذفها .( زاد المعاد (1/106(
و قال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى {إن الذين يرمون المحصنات الغافلاتالمؤمنات لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم } ، قال : أجمع العلماءرحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذيذكر في هذه الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن .
(تفسير القرآن العظيم ((5/76) .
وقال ابن كثير : ( و قد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها )
( البداية و النهاية 8 / 486 )
و قال بدر الدين الزركشي : من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببراءتها
) . الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة (ص 45)(
و قال السيوطي عند آيات سورة النور التي نزلت في براءة عائشة رضي الله عنهامن قوله تعالى { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم .. الآيات } ، قال : نزلتفي براءة عائشة فيما قذفت به ، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبهلنص القرآن ، قال العلماء : قذف عائشة كفر لأن الله سبح نفسه عند ذكره فقالسبحانك هذا بهتان عظيم ، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجةوالولد
(الإكليل في استنباط التنزيل ( ص 190)
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : { ومن يقذف الطيبة الطاهرة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، لما صح ذلك عنه ، فهو من ضرب عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين، ولسان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا معشر المسلمين من يعذرني فيمن أذاني في أهلي }.
(( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً )) * (( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً )) [الأحزاب:57-58] . . فأين أنصار دينه ليقولوا له : نحن نعذرك يا رسول الله .
(الرد عل الرافضة 25-26 )
كما أن الطعن بها رضي الله عنها فيه تنقيص برسول الله صلى الله عليه وسلم من جانب آخر ، حيث قال عز وجل : (( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ )) [النور:26].
قال ابن كثير : { أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة ، لأنه أطيب من كل طيب من البشر ، ولو كانت خبيثة لما صلحت له شرعا ولا قدرا ، ولهذا قال تعالى: (( أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ )) أي عما يقوله أهل الإفك والعدوان } . ( ابن كثير 3 / 278 )
ثم إن فيه إيذاء وتنقيصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من عدة وجوه ، دل عليها القرآن الكريم ، فمن ذلك :
إن ابن عباس رضي الله عنهما فرق بين قوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء } وبين قوله (( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ )) [النور:23] ، فقال عند تفسير الآية الثانية : { هذه في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهي مبهمة ليس توبة ، ومن قذف أامرأة مؤمنة فقد جعل الله له توبة . . . إلى آخر كلامه . . . قال : فهم رجل أن يقوم فيقبل رأسه من حسن ما فسر } .
( انظر ابن جرير 18 / 83 ، وعنه ابن كثير 3 / 277 ) .
فقد بين ابن عباس ، ان هذه الآية إنما نزلت فيمن قذف عائشة وامهات المؤمنين رضي الله عنهن ، لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه ، فمن قذف المرأة أذى لزوجها ، كما هو أذى لابنها ، لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه ، وإن زنى امرأته يؤذيه اذى عظيما . . ولعل ما يلحق بعض الناس من العار والخزي بقذف أهله اعظم مما يلحقه لو كان هو المقذوف .
( الصارم المسلول ص 45 ، والقرطبي 12 / 139 ).
وكذلك فإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بالإجماع .
قال القرطبي عند قوله تعالى (( يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ )) [النور:17] : { يعني في عائشة ، لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول بعينه ، او فيمن كان في مرتبته من ازواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله ، وذلك كفر من فاعله } . ( القرطبي 12 / 136 ، عن ابن عربي في أحكام القرآن 3 / 1355 - 1356 ) .
ومما يدل على أن قذفهن أذى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ما أخرجه الشيخان في صحييهما في حديث الإفك عن عائشة ، قالت : { فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي سلول } ، قالت : { فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر - : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في اهل بيتي . . } كما جاء في الصحيحين .
فقوله : { من يعذرني } أي من ينصفني ويقيم عذري إذا انتصفت منه لما بلغني من اذاه في أهل بيتي ، والله أعلم .
فثبت انه صلى الله عليه وسلم قد تاذى بذلك تأذيا استعذر منه .
وقال المؤمنون الذين لم تاخذهم حمية : { مرنا نضرب اعناقهم ، فإنا نعذرك إذا أمرتنا بضرب أعناقهم } ، ولمينكر النبي صلى الله عليه وسلم على سعد استئماره في ضرب أعناقهم . ( الصارم المسلول ص 47 ) .
فهذه الأقوال المتقدمة عن هؤلاء الأئمة كلها فيها بيان واضح أن الأمةمجمعة على أن من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها و قذفها بما رماها بهأهل الإفك ، فإنه كافر حيث كذب الله فيما أخبر به من براءتها و طهارتها رضيالله عنها ، و أن عقوبته أن يقتل مرتداً عن ملة الإسلام
وقالت عائشة رضي الله عنها : ( لا ينتقصني أحد في الدنيا إلا تبرَأت منه في الآخرة )
__________________